فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (127):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [127].
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ}.
قال الزمخشري: يعني تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي، وسخرية به، قائلين: هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه، ويغلبنا الضحك، فنخاف الإفتضاح بينهم، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والإنسلال لواذاً. يقولون: هل يراكم من أحد {ثُمَّ انْصَرَفُوا} أي: عن محفل الوحي خوفاً من الإفتضاح {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي: عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام.
والجملة إخبارية أو دعائية {بِأَنَّهُمْ} أي: بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي: لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا.
تنبيهات:
الأول: دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وهو الحق أوْ لَا، وأنه مجرد التصديق القلبي، فالزيادة مما يقبلها قطعاً، والأول بديهي، والثاني مثله، إذ ليس إيمان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يُرتاب فيه.
الثاني: ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين: عدم اعتبارهم بالإبتلاء، وتمكن الكفر منهم، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان، وهو تكرير التنزيل.
ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم، وعدم نفع العظات فيهم، ختم مخازيهم بذلك، لأنه نتيجتها، وقدم عليه ما يصيبهم من الإبتلاء، لأن فيه ردعاً عظيماً لو تذكروا.
وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك، وجود التقرير فيه، وعبارته: البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه، وقد ورد في الحديث: «البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه»، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد، بكسر سورة نفسه وقواها، ويقمع صفاتها وهواها، فيلين القلب، ويبرز من حجابها، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها، وينقبض منها ويشمئز، فيتوجه إلى الله.
وأقل درجاته أنه إذا اطّلع على أن لا مفر منه إلا إليه، ولم يجد مهرباً ومحيصاً من البلاء سواه، تضرع إليه وتذلل بين يديه، كما قال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً}.
وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه، فليغتنم وقته وليتعوّذ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبداً حتى يستقر التيقظ والتذكر، وتتسهل التوبة والحضور، فلا يتعود الغفلة عند الخلاص فتغلب، وتتقوى النفس عند الأمان، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان، كما قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}. انتهى.
الثالث: قال السيوطي في الإكليل: أخذ ابن عباس من قوله: {ثمَُّ انْصَرَفُوا} كراهية أن يقال: انصرفت من الصلاة- أخرجه ابن أبي حاتم-.
ومرجع هذا إلى أدب لفظي، باجتناب ما يوهم، أو ما نُعِيَ به على العصاة.
وقد عقد الإمام ابن القيم في زاد المعاد فصلاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق، واختيار الألفاظ، فليراجع.
ثم بيّن تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله:

.تفسير الآية رقم (128):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [128].
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: رسول عظيم من جنسكم، ومن نسبكم، عربيّ قرشيّ مثلكم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
وكلّم جعفر بن أبي طالب النجاشي، والمغيرةُ بن شعبة رسولَ كسرى، فقالا: إن الله بعث فينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته. الحديث.
ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: شديد عليه شاق، لكون بعضاً منكم، عنتُكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة، والوقوع في العذاب {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه، والإستسعاد بدين الحق الذي جاء به {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ} إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي، لفرط رأفته {رَحِيمٌ} إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف، والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها، برحمته.

.تفسير الآية رقم (129):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [129].
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا عن الإيمان بك، وناصبوك: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: فاستعن به، وفوض إليه، فهو كافيك وناصرك عليهم.
وقال القاشاني: أي: لا حاجة لي بكم، ولا باستعانتكم، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفّن الذي يجب قطعه عقلاً، أي: الله كافيني فلا مؤثر غيره، ولا ناصر إلا هو، كما قال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فوضت أمري إليه، وبه وثقت: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي: المحيط بك شيء، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل، وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات، فيدخل ما دونه، وقرئ {العظيم} بالرفع، على أنه صفة الرب جل وعزّ.
تم ما علقناه صباح الاثنين في 24 رجب سنة 1322 هجرية، في سدة جامع السنانية بدمشق الشام، اللهم يسرلنا بفضلك الإتمام، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين.
ويليه الجزء السادس وفيه تفسير سور: يونس وهود ويوسف والرعد.

.سورة يونس:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [1].
{الر} مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي، أو اسمٌ للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي: هذه السورة مسماة بـ: {الر} والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده، صارت في حكم الحاضر، كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو النصب بتقدير: اقرأ.
وكلمة: {تِلْكَ} إشارة إليها، إما على تقدير كون: {الر} مسرودة على نمط التعديد، فقد نزَّل حضور مادتها، التي هي الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها، كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة... الخ.
وأما على تقدير كونه اسماً للسورة، فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها، أو الأمر بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد؛ للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة، ومحله الرفع على أنه مبتدأ، خبره قوله تعالى: {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، وعلى تقدير كون: {الر} مبتدأ، فهو مبتدأ ثان، أو بدل من الأول. والمعنى: هي آيات مخصوصة منه، مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفاً بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة، والصفات الكاملة.
والمراد بـ: {الكتاب}: إما جميع القرآن العظيم، وإن لم ينزل الكل حينئذ؛ لاعتبار تعيينه وتحققه في علم الله تعالى، وإما جميع القرآن النازل وقتئذ، المتفاهم بين الناس إذ ذاك.
و: {الحكيم} أي: ذو الحكمة، وإنما وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة، ونطقه بها، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب الحكيم الناطق بالحكمة- أفاده أبو السعود-. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [2].
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبداً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه، والقدم بمعنى السبق مجازاً، لكونه سببه وآلته، كما تطلق اليد على النعمة، والعين على الجاسوس، والرأس على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، فهو مجاز بمرتبتين أو القدم بمعنى المقام كـ: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: من الآية 55]، بإطلاق الحال وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله قدمٌ صدقٌ أي: محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم، ظاهراً وباطناً.
قال في الانتصاف: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدماً إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطرداً، ولكن غلب العرف على قصرها، كما يغلب في الحقيقة.
{قَالَ الْكَافِرُونَ} وهم المتعجبون: {إِنَّ هَذَا} أي: الكتاب الحكيم: {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ظاهر. وقرئ {لَسَاحِرٌ} على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً، وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً، حتى عند نفس المعارض، دأب العاجز المفحَم.
ثم بيَّن تعالى بطلان تعجبهم، وما بنوا عليه، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه، وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [3].
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية:
قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى على العرش: علا، أي: بلا تمثيل ولا تكييف، والعرش: هو الجسم المحيط بجميع الكائنات، وهو أعظم المخلوقات والأيام قيل: كهذه، وقيل: كل يوم كألف سنة.
{يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله، و{مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله: {ذَلِكُمُ اللّهُ} إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف هو: {رَبُّكُمْ} أي: الذي رباكم لتعبدوه: {فَاعْبُدُوهُ} أي: وحِّدوه بالعبادة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [4].
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي: الموت أو النشور، أي: لا ترجعون في العافية إلا إليه، فاستعدوا للقائه: {وَعْدَ اللّهِ حَقّاً} أي: صدقاً، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} أي: من النطفة: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: بعد الموت: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي: بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي: من ماء حارّ قد انتهى حره: {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم: {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} تعليل لقوله لمقابلة قوله، فإن معناه: ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم، وعذاب أليم، بسبب كفرهم، لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقاً مقرراً لهم، كما تفيده اللام وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعقاب واقع بالعرَض بكسبهم، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط العبارة به لفخامته وعظمته، ولذلك لم يعينه.
ثم نبه تعالى للاستدلال على وحدته في ربوبيته، بآثار صنعه في النيرين، إثر الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [5].
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء} للعالمين بالنهار: {وَالْقَمَرَ نُوراً} أي: لهم بالليل، والضياء أقوى من النور: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} الضمير لهما، بتأويل كل واحد منهما، أو للقمر، وخص بما ذكر، لكون منازله معلومة محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي: حساب الشهور والأيام، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات: {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: بالحكمة البالغة: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها.
قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ، ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله: